A- Accept and acknowledge the other, understand his culture, tolerate his differences through constructive dialogue.
B- Build bridges between people and raise a new generation through education.
C- Cooperate and collaborate through workshops and events.
D- Develop immunity against racism, hatred and fanaticism with Al-Mawadda vaccine made of three ingredients: affection, love and compassion.
أبجديّتنا
من أجل عيش مشترك مسيحي إسلامي
المقدمة
بعد سلسلة “المسيحية والإسلام في الحوار والتعاون” الصادرة عن مركز الأبحاث في الحوار المسيحي الإسلامي (حريصا-لبنان)، وهذه الكتب هي من منشورات المكتبة البولسية وقد شارفت على تجاوز 62 عددًا، قام البروفيسور الدكتور الأب عادل تيودور خوري ، وهو أستاذ علوم الأديان سابقا في كلية اللاهوت الكاثوليكي في جامعة مونستر في ألمانيا، بإطلاق سلسلة جديدة من الكتب بعنوان: “مسيحيون ومسلمون في سبيل التضامن والمودّة”. وقد صدر منها حتى الآن ما لا يقل عن 7 أعداد نذكر منها العدد الثاني بعنوان “في سبيل توثيق أواصر القربى بين المسيحيين والمسلمين”، و العدد الخامس بعنوان: “من تطلعات الانطلاقة الجديدة من اجل التصافي والتضامن والمودة”.
دستور “جماعة المودة”
أما العدد الأول من سلسلة “مسيحيون ومسلمون في سبيل التضامن والمودّة”، فهو بعنوان: “انطلاقة جديدة من أجل عيش مشترك في ظل المودة”، وسيكون بمثابة الدستور الذي يقوم عليه تنظيم “جماعة المودة”.
وكل الشكر الى الأخ رامي العازر البولسيّ الذي اختصر العدد الأول مركزًا على النقاط الاساسية لمحتوى الكتاب المذكور بإذن من المؤلف الذي أشرف عليه بنفسه.
مسيحييون ومسلمون
انطلاقة جديدة
من اجل عيش مشترك في ظل المودة
أولا: تاريخٌ مشترك
حمل المسيحيون والمسلمون في علاقاتهم اليوم عبء ما اتسم به تاريخهم المشترك في الماضي من نزاعات وصراعات وعداوات. ولو أمعنّا النظر في حنايا هذا التاريخ لوجدنا، في مقابل النواحي السلبية المذكورة، الكثير من الإيجابيات التي تصلح لأن تكون قاعدة لحياة مشتركة تمتدّ لأجيال المستقبل. ومن هنا، فلا يصح البتة أن نتوقف عند تاريخ نزاعاتنا، بل علينا أن نسعى لاكتساب معرفة موسّعة للجوانب الإيجابية من تاريخنا المشترك.
ولتحقيق السعي المذكور، لا بد من التقارب واحترام الآخر كما هو، والاطلاع على ما عنده من معطيات، في جوٍّ من الحوار الهادئ الرصين.
وفي هذا الإطار، يذكر القرآن الكريم في إحدى آياته: “ثم قَفَّينا على آثارهم برُسُلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناهُ الإنجيلَ وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمة…” (سورة الحديد 57: 27). ويذكر في موضع آخر: “… ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون” (سورة المائدة 5: 82).
وفي المقابل، يقول السيد المسيح: “سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم” (متى5: 43-44). وإذا كانت محبة الأعداء مطلوبةً، فكيف بمحبة الأصدقاء الذين تربطنا بهم أواصر المودّة!
وأما أهداف التعرّف على النواحي الإيجابية من تاريخنا المشترك فعديدة، ومنها بذل الجهود المشتركة في سبيل إقامة نظام اجتماعي أكثر عدالة، وفي سبيل بناء عالم أكثر إنسانية، والاعتراف بحقوق الإنسان العامة، وتنفيذها لصالح الجميع.
ثانيا: التعاون في الشراكة
التعاون يتقدّم على الحوار؛ ففي الحوار يجلس المتحاورون بعضهم مقابل بعض، ويبحثون في اختلافاتهم على أنواعها؛ وأما في التعاون فيغدو المتحاورون شركاء، يجلسون بعضهم إلى جانب بعض، ويتفحّصون معا المشكلات التي تهمّ الجميع، سائلا كلُّ واحد منهم نفسَه وجماعته الدينية عن مساهمتها في حل هذه المشكلات، كما يُطالب بتنفيذ هذه المساهمة.
على الإنسان المؤمن أن يتخطّى حدودَ شخصه وبيئته الضيّقة، وأن يتطلّع إلى آفاق جديدة، وأن يحقّق نوعا من التعايش بين الناس، يرتكز على الأخوّة والتضامن والتكافل والتمثيل المتبادل. فالتطلّع إلى إقامة عدالة أخوية في هذا العالم هو أصلا تشوّق على عدل الله، عدلِ الرحمة والرفق والمحبة. فمَن كان الله قدوتَه، وقاس تصرفَه الخاص بعدل الله، أحسّ بأنه يُطلب منه التفوق على نفسه، والتغلب على تصوراته البشرية الضيّقة، والانطلاق إلى آفاق جديدة تنفتح أمامَه على العدل الإلهي كمثال ومَطلب موجِب.
ثالثا: عوائق الحوار
على الرغم من أهميّة الحوار، وعدم وجود بديل عنه، ولاسيما بكونه وسيلة للازدياد في معرفة الآخر، ولتوطيد التضامن بين جميع البشر، إلا أنّ هناك بعض العوائق التي تعترض ممارسة مثل هذا الحوار، ومن أهمّ هذه العوائق:
أ- التزمّت والانعزالية: التزمّت والانعزالية مقبرةُ الحاضر، وهاويةٌ تنهار في ثناياها آمال المستقبل. فمن ظن أنه وحده يملك حلّ القضايا جميعا، لم يكن على وعي لأبعاد هذه القضايا وتشابك عناصرها؛ وهو يتعامى، حقا، عن أنّ قضايا المجتمع لا تُحلّ إلا بمساهمة جميع أعضائه.
ب- الجهل وانعدام الكفاءة: الإنسان غير الراسخ في معرفة تراثه لا يصلح لإقامة حوار مثمر، فهو يتعلق بالقشور السطحية، أو بالتقاليد العِجاف، خوف الغرق في خضمٍّ لا طاقة له عليه. والإنسان الذي لا يعرف تراث شريكه في المجتمع الواحد، لا يُحسن محاورته ومشاورته، وإنّ أسوأ ما قد يصيب دينا أو جماعة، هو الجهل المتعسّف، والتعصب الجاهل.
ت- الأحكام المسبقة: وهي أحكام ورثناها من ماض عكّرته الصدامات والعداوات، وتمسّكنا بها في الحاضر في وقفة مكابرة. وإنّ من نتاج العدالة تنحية هذه الأحكام المتراكمة، والخلوص إلى جوٍّ هادئ، والحصول على استعداد منفتح للحوار، وقابليةٍ للخوض في مجالاته.
ث- عدم الصبر على الفكر: يقوم الفكر بالتحليل المليّ للأمور في عناصرها ودقائقها، وقرائنها وترابطها؛ ومن الصبر على الفكر الشجاعةُ في تقبّل حقائق الأمور، وإن كانت في وضعها الراهن غيرُ مرضية؛ والإقدامُ على النقد الذاتي لتنوير الفهم، وتصفية القلب، والتنبّه للنقائص التي تعتري الإنسان.
ج- هدم الصبر على المغايرة والاختلاف: الزمن كلّه، والتاريخ كلّه، هو زمن صبر الله على البشر في سعيهم إلى ردم الهوّة التي تفصل مسلكهم عن توجيهات مشيئته؛ فما أحوجنا في هذا العالم إلى أن نحتمل اختلافاتنا، في الفكر والقول والعمل!
رابعا: مستويات الحوار
أ- الحوار في العقائد
لم يعد يفي اليوم بالغرض، كمان كان يحصل في الماضي، أن يتوقف كلُّ محاوِر عند دينه الخاص، فيدافع عن حقيقة معتقده، ويمجّد جميع نواحيه، من دون ممارسة حدٍّ أدنى من النقد الذاتي؛ كما لم يعد يفي بالغرض التحامل على دين الآخر، ووصفه بأنّه ضلال تام. إن هذا المنهج الذي مارسته الأجيال السالفة لم يأت بنفع، بل سدّ سبل الفهم والتفاهم. نحن اليوم في حاجة إلى الاحترام المبدئيّ لقناعات الآخرين الدينية، وإلى إقامة التبادل حول الفروق والتناقضات بين الأديان، وذلك في جوّ هادئ يدل على أن المتحاوِرين مستعدّون للصبر على الاختلاف، وأهلٌ له.
وهذا يتطلّب أن نتعلّم قواعد ثقافة الجدال السلميّ وأن نمارسها، وألا نتغافل عن مواضع الاختلاف، أو أن نحطّ من أهمّيتها، بل أن نبحث أولا عن مواضع الاتّفاق التي تمثّل الأساس الذي يمكّن الاطراف المتحاوِرة من أن يبنوا عليه الجسور التي تصل في ما بينهم.
والحوار يعتمد، أيضا، مبدأَ التعاطف الناقد؛ فالتعاطف يمكّن من استقصاء أمور الدين حتى الوصول إلى لبّه واكتساب فهمه؛ وأمّا الجهة الناقدة في التعاطف فتُبقي العين مفتوحة، فلا تغيب عن البصر أو البصيرة الأمورُ المتنازعُ حولَها. التعاطف الناقد يمكّن من إقامة الحوار البناء، غير الساذج ولا الجامح في متاهات الأصولية المتصلبة.
إنّ مثل هذا الحوار، حول العقائد والتعاليم والشؤون اللاهوتية، لا يكون دائما ممكنا، وذلك بسبب نقص التخصّص في مناهج اللاهوت وعلم الكلام. وحيث يُفقد هذا التخصص ترى المتحاورين يأتون بمقولات عامّة عمّا يعرفونه ويمارسونه في نطاق دينهم الخاص، من دون أن يقدّموا ما يُفترض الإتيان به من معطيات دقيقة وحجج ضروريّة وبراهين مؤيّدة.
ب- التبادل الثقافي والروحي
إنّ التبادل الثقافي يقرّب بين الناس، ويفتح النوافذ والأبواب لتقدير القيم والمنجزات الثقافية عند الآخرين؛ وهو يوسّع الآفاق ويقوّي الاستعداد للتعاون. نحن نعرف تاريخ نزاعاتنا وعداواتنا، ولكن ليست لدينا معرفة جدية عن تاريخ صداقاتنا. إنّ البحث عن علامات الصداقة هذه يقدّم لنا مثالا لتبديل حاضرنا، وتخطيط مستقبل مشترك يستتبّ فيه السلام، ويقوم فيه العدل، ويتّصف بالرحمة والمحبة.
هناك شكل آخر من الحوار، ولعلّه أعمقُ تبادلٍ بين المؤمنين المنتمين إلى الأديان المختلفة، وهو تبادل الخبرة الروحية، وأحوالِ العبادة والتماس وجه الله… أفلا يسود جوّ من السلام والارتياح إن جرى حديث روحي بيني وبين صديق لي من المسلمين الأتقياء، حيث يصف كلٌّ منّا حديثَه مع ربه في صلاته ودعاته؟!
ت- العيش المشترك
نحن جميعا، شعوبُ هذا الشرق وجماعاتُه الدينية، نعيش في بقعة واحدة، ونخضع معا لمصير واحد، ولنا معا أمنية مشتركة أن يكون لنا حاضر مُفلح ومستقبل ناجح في ظلّ الأمن والعدل والحرية والسلام.
ونحن جميعا نعيش مع سائر شعوب الأرض في عالم تزجّه العولمة في تقارب لا مفلت منه، وتدفعه إلى وحدة لا مناص منها على المدى المتوسّط البعد. وهذا يجعلنا نوقن بأنّه لا يستطيع أحدٌ من بعد أن يعيش وحدَه في عزلةٍ متكبّرة، ولا تستطيع أيّ جماعة أن تضمن وحدَها لنفسِها ازدهارَها ومستقبلها. بل إنّا جميعا مترابطون، نعيش معا، ونجهد معا، ونسعى إلى حلّ مشكلاتنا المشتركة، ونعمل معا على بناء مستقبلنا المشترك. في هذا الوضع الراهن ليس لنا سوى سبيل واحد، هو سبيل الوعي للوضع وأبعاده، وسبيل التطلّع إلى المستقبل ببصيرة ثاقبة، وعزم ثابت على العمل المثمر، وسبيل بناء مجتمع على أساس ثقافة السلام والعدل والمحبة.
العيش المشترك الناجح بين أبناء الوطن الواحد، والمنطقة الواحدة، أيّا كان انتماؤهم الديني، يُنمي لديهم الاحترام المتبادل، والتقدير الرضيّ ويعزّز الاستعداد للتصافي ولإقامة علاقات صداقة ومودّة، ويدفع عزائم الجميع إلى العمل لخير الجميع، بعيدا عن الأنانية والسعي المجحف وراء المصلحة الخاصّة على حساب الآخرين وعلى حساب الخير العام. هذا يقتضي أن نتّخذ القيم الأخلاقية التي ينادي بها دينُنا قاعدةً لإقامة علاقات طيّبة مع الآخرين، وأن نخطّط ونمارس معهم التعاون المثمر.
إن تمكّنّا، مسيحيين ومسلمين، من توجيه سلوكنا وفق القيم المشتركة بين المسيحية والاسلام، استطعنا أن نشيّد نظاما اجتماعيا إنسانيا، يرتكز على احترام كرامة الإنسان، وتكون ثماره ما يأتي:
– إقامة عدالة أخويّة، وتنفيذ الحقوق والواجبات تنفيذا رحيما.
– منح الأولوية لحقوق الضعفاء، وتوجيه الاختيار في العمل لصالح الفقراء والمحرومين.
– الاستعداد للمصالحة والتصافي، أي أن يعرض المسيحيون على المسلمين المصالحة الشاملة، وأن يعرض المسلمون على المسيحيين المصالحة الشاملة، فيتمّ التصافي بينهم.
– إبدال العمل في سبيل التسلّط والحكم على الآخرين بالسعي للاهتمام بالسّلام وصيانته وتوطيده.
إنّ مستقبل العالم، وعالم المستقبل، في حاجة إلى نشاطنا والتزامنا، إلى أفكارٍ جديدة ومبادرات جديدة. وفي حاجة إلى خدمة المصالحة والتصافي، وإلى الجهود المتضافرة التي تضمّ الكثيرين في السعي نحو هدف واحد.
خامسا: متطلبات الحوار
ليس الحوار بمهمّة سهلة، إذ إنه يفرض انفتاح الذهن وطواعية القلب؛ وإلى جانب ذلك، يجب على المتحاورين أن يحصلوا على معرفةٍ وافية لدين الآخرين. ولا يقوم الحوار بتبادل المجاملات، بل بالمودّة الواعية التي تقبل بما تراه، حقيقة وخيرا، وتوجّه الانتقاد إلى ما تراه بعيدا شاذًّا؛ هي مودّة مرتكزة على الأمانة ليقين دينها، ولكنّها تميّز في تراثها بين ما هو حقيقةُ الله، وما هو مظاهر جواب البشر على وحي الله؛ وهي مودّة منفتحة على جهود الغير للبلوغ إلى الحقيقة والخير، للبلوغ إلى مرضاة الله. وهكذا فإنّ الحوار أساسه الأمانة للذاتيّة الخاصّة، والانتفاح على الآخرين.
سادسا: الهدف المشترك
ينتج من عناصر العرض السابقة منهاج جديد للتعاون بين المسيحيين والمسلمين للبلوغ إلى هدف مشترك. وأمّا خطوط هذا المنهاج العريضة فهي الآتية:
أ- الشهادة المشتركة للإيمان بالله، في عالم تهزّه أزمات الفكر والعقل والقلب، وتهدّد بإبعاده عن الله، وعن نظام الله في خلقه.
ب- العمل على إقامة العدل في المجتمع، وفي علاقة البشر بعضهم ببعض؛ إذ إنّ العدل في نظر المسيحية والإسلام معا هو قوام المجتمع وقاعدة السلام.
ت- العمل على إقامة الرفق والرحمة في معاملة الأفراد وفي بناء المجتمع المتضامن؛ وهذه مهمة يُعلِّق عليها الدينُ المسيحي والدينُ الإسلامي أهميةً كبرى.
ث- العمل على إقامة المحبّة والأخوّة بين البشر كافة، وعلى إنشاء مجتمع إنسانيّ منفتح، تُذكِّر فيه المحبّةُ جميعَ الناس بمحبة الله الخالق لخليقته كلّها.
ج- العمل على إقامة مجتمع متضامن منفتح على الجميع، ويعمل بدوره على إيجاد عالم متضامن، عالم يشمل فيه التضامن جميع الأفراد والشعوب، أي أن يكون هناك تضامن الجميع مع الجميع.
وحريّ بنا أن نعي أنّ المستقبل لا يمكن أن يكون لفئة من الناس على حساب الآخرين أو ضدّ الآخرين؛ المستقبل مستقبل مشترك، هو مستقبل الجميع بالتضامن مع الجميع، كما أنّ الحاضر للجميع. هذا ما أثبته السيد المسيح بقوله: “إفعلوا للآخرين ما تريدون أن يفعل الآخرون بكم”. هذا ما قاله النبي محمد في حديث معروف: “لا يؤمن أحدٌ حتى يريد لأخيه ما يريد لنفسه” (البخاري ومسلم).
سابعا: الوفاء للإيمان
كثيرون يخشون الخوض في حوار مع مؤمني الأديان الأخرى حول عقائدهم الدينية، فهم لا يريدون أن يصلوا إلى وضع يظهر فيه أنّ حقيقتهم التي يؤمنون بها إيمانا ثابتا هي حقيقة نسبيّة، أي أنّها في موضع الشكّ أو قد يتخلّى عنها، وبحيث تظهر حقيقة الإيمان وكأنّها موضوع مساومة.
إنّ مثل هذه المخاوف يجب حملها على محمل الجِدّ وتقويم اتجاهها؛ لا شكّ في أنّ الحوار يقتضي انفتاحا حازما من قبل الروح واستعدادا كبيرا من جهة القلب، ومن يريد الحوار عليه أن يكون قابلا الانسلاخ من ذاته، من ميدان حياته المسيّج، ومن أمن تراثه المعتاد لكي يُقبل على الآخر.
ثامنا: الاختلاف والمغايرة
إنّ نحن تفكّرنا أنّ الإيمان يتقبّله المؤمنون ويختبرونه في نطاق التاريخ، وجب علينا أن نتوقّع أن يظهر على صعيد الخبرة البشرية شيء من الاختلاف؛ ولكن حيث يظهر تناقض صريح تجاه تعاليم الدين الملزمة، فهناك يثبت عدم التوافق بين الموقفين، فإنّ المقولات التي يناقض بعضُها بعضا لا يمكن أن تكون جميعا على حق.
وفي حال التناقض أو الاختلاف فقط يجب أن نعلم لا ما يقوله المحاوِر فقط، بل يجب أن نحاول أن نفهم لماذا يفكّر فيه ويقول به، أي إنّه يجب استكشاف سبيل المؤمن الآخر إلى إقرار قناعاته الدينية (من مقدمات وبراهين واستنتاجات)، لكي نفهم موقفَه فهمًا حقيقيا. الأمر هنا يدور حول الفهم، لا حول الموافقة على ما يقال. ولكن من يفهم ما يقال ولماذا يقال، يتّخذ موقفا أشدّ عدالة تجاه طرف الحوار الآخر.
ثمّ إنّ الاختلاف والمغايرة لا يعنينان دائما تناقضا؛ إنّهما في كثير من الأحيان مجرّد مغايرة. فالمغايرة عند الآخرين، كما يتّضح في نطاق العلاقات البشرية الاعتياديّ، لا تعني دوما وفي أوّل الأمر تهجّما على هويتي الشخصية، بل تكون شكلا آخر من أشكال الوجود البشري. هذا يعني أنّه علينا أن نتحلّى بالصبر ونثق بإمكانية التطور في المستقبل.
صحيح أنّ كثرة التقاليد، وأنواع المطالبة بامتلاك الحقيقة لدى الأديان، تضطرّ البشر في العالم الواحد إلى البحث عن سبيل التعايش السلمي المفلح؛ وأحد هذه السبل هو، ولا شكّ، التسامح العمليّ المتبادل، بغض النظر عن مطالبة الدين الخاص بامتلاك الحقيقة وبصحّة قواعده. سؤالي هو: هل توافق الحقيقة الدينية المعروفة والمعترَف بها، على الرغم من يقين إيمانها، على الإفساح في المجال للتسامح؟ فإن كان الجواب إيجابيا، فالسؤال الثاني هو: كيف يمكن تبرير هذا التسامح، وحلّ التوتّر بين يقين الحقيقة والقول بنسبيّتها الذي يمكن أن يتراءى في كلّ شكل من أشكال التسامح؟
تاسعا: معرفتنا للحقيقة ناقصة
الله هو ربّ الحقيقة، وحقيقتُه ليست متسامحة بمعنى أنّها قيد التصرّف، أو أنها موضوع مساومة متساهلة، واستنزالٌ متأدّب؛ وبما أنّه وحده ربّ الحقيقة، فإنّ الحقيقة كما يعرفها الإنسان متسامحة ، والمؤمنين سائرون نحو معرفة كاملة لكمال الحقيقة. أي إنّ الحقيقة الإنسانيّة لا تزال ناقصة، وفي حاجة إلى الاكتمال. فهي ليست بمطلقة، ولو كان محتواها يتعلّق بالله وحقيقته المطلقة، لذا علينا السعي إلى كمال معرفة ملء الحقيقة التي هي في الله. ولكنّ الإنسان عاجز عن البلوغ إلى معرفة تامّة لحقيقة الله المتسامية، ولذلك يجب عليه أن يتصف بالتسامح في علاقته مع الذين يؤمنون بالله ويلتمسون حقيقته.
عاشرا: النمو في المعرفة
ليس المقصود هنا معرفة الحقائق العلميّة، ولا معرفة الحقائق التي تنبعث من اختبار الحياة على مدى السنين، بل معرفة الحقيقة الدينيّة. وقد أكّدت ضرورة ذلك ضُمّةٌ من النصوص في وثائق العقيدة المسيحية وفي الإسلام.
فقد قال السيد المسيح في إنجيل يوحنا: “إنّ عندي أشياء أخرى كثيرة أقولها لكم، ولكنّكم لا تطيقون الآن حملها. فمتى جاء هو، روح الحق، فإنّه يرشدكم إلى الحقيقة كلّها” (يوحنا16: 12-13). وكتب بولس الرسول إلى المؤمنين من جماعة كولسي: “نحن لا ننفكّ… نصلي لأجلكم، سائلين (الله) أن تبلغوا إلى معرفة مشيئته معرفة كاملة، في كلّ حكمة وفهم روحي… وتثمروا بكلّ عمل صالح، وتنموا في معرفة الله” (كولوسي1: 9-10). “فإنّ علمنا ناقص” (1كورنثس13: 9). ثم إنّ الرسل الحواريين قالوا للسيّد المسيح بشهادة إنجيل لوقا: “زدنا إيمانا” (لوقا17: 5).
وورد في القرآن الكريم عن بعضهم أنّهم سألوا النبي عن الروح، فأجابهم “الروح من أمر ربّي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (الإسراء17: 85). وجاء هذا الجواب حَضًّا لهم على استكمال العلم والنموّ في المعرفة. ثمّ إنّ القرآن يحرّض النبيّ محمدًا نفسه على أن يطلب إلى الله أن “قل ربّي زدني علما” (طه20: 114).
الخاتمة
محبّة الله واجبُ كلّ بشري؛ والخير والرحمة والفضيلة هي طرقٌ عمليّة لهذه المحبّة. فلو أنّا سعينا كلٌّ منّا إلى معرفةٍ أعمق وأدق لدين الآخر لَنَشطَ الخير، وسَهلَ اللقاء، وتَفتَّحت أبوابُ الحوار الأخوي. إنّ الإيمان المشترك بالله الواحد أساس متين لحوار أخويّ نَصوحٍ بين المسيحيين والمسلمين، وحافز لتعاون مُثمر في سبيل مجد الله ربّ البشر جميعا، وفي خدمة البشر، وهم جميعُهم إخوةُ عبادِ الله.