جسور خضراء
انها جسور العبور الى النور حيث لا حاجة إلا الى جواز المودة وتأشيرة اقوال او افكار الخير ومقالات المحبة.
أمّا مدة الصلاحية فتتجدد مع أفعال الرحمة والصالحات او الاعمال الصالحة.
اخترنا من كتاب “المسيحية والإسلام في الحوار والتعاون- مقالات في الحوار الإسلامي المسيحي” (منشورات المكتبة البولسية جونيه) للمؤلف محمد السماك المقالة الاولى بعنوان “قصة جسرين…”
قال عنه الأب عادل تيودور خوري:
محمد السماك علم من أعلام الفكر وأصحاب الرأي في بلادنا. نافذ البصيرة، مرهف الحس، مندفع في قولة الحق.
…هو شديد الإلحاح في طلب الحقيقة، عنيد الصمود في إقامة العدل، رحب الصدر في التماس التصافي.
…لو كان عندنا مثله كثيرون لكففنا عن التناحر، وأقلعنا عن هدر القوى والمقدّرات، وجمعنا أفكارنا وقلوبنا وسواعدنا لخدمة الانسان والمجتمع، تلك الخدمة النصوح التي اوكل الله بها إلينا، نحن المسلمين والمسيحيين.
قصّة جسرين بين الإسلام والمسيحيّة
في العالم الاسلامي، مشكلة تتعلّق بصيغة العيش المشترك مع المسيحيّين. وفي العالم الغربيّ مشكلة تتعلق بصيغة العيش المشترك مع المسلمين. المشكلتان تقومان على قاعدة واحدة هي سوء الفهم المتبادل لكلّ من المسيحيّة والإسلام؟ هناك كثير من الحوار وقليل من التفاهم، الأمر الذي يتطلب إعادة نظر في الأسس التي يقوم عليها الحوار وفي حقيقة الاهداف التي يسعى إليها.
يحتاج المسيحيّون في العالم الإسلاميّ، من إندونيسيا في آسيا حتى نيجيريا في أفريقيا، الى فهم إسلاميّ أعمق لمشاعرهم الدينيّة ولحقوقهم الوطنيّة. إنّ سوء الفهم أدّى ويؤدّي الى ضعف الثقة والى سوء المعاملة، وتالياً الى سوء العلاقات. لم تعد المسيحيّة كما كانت حتى القرن التاسع عشر دين الرجل الأبيض، أو دين الأغنياء من شعوب العالم. فقد انتشرت المسيحيّة على نطاق واسع في آسيا وأفريقيا حيث الإسلام. فالأكثرية العدديّة من المسيحيّين اليوم تعيش في العالم الثالث (أميركا الجنوبيّة – آسيا – أفريقيا)، وفي هذا العالم الثالث مليار وثلاثمئة مليون مسلم.
من هنا الحاجة الى مزيد من التعارف والتفاهم بين المسلمين والمسيحيّين لتجنب الاضطرابات التي تنشأ من جرّاء غياب التعارف والتفاهم على القواعد الإيمانية الصحيحة والسليمة. ونقول على القواعد الإيمانيّة، لأنّ العلاقات الإسلاميّة-المسيحيّة تقوم أساساً على هذه القواعد، وليس على مفهوم التسامح. فالتسامح فوقيّ. وهو يعكس حالة من التنازل الذاتيّ عن الحقّ إسترضاءً للآخر أو إحتواء له. ولكن لا تنازل في الدين، (سواء كان الدين هو الإسلام أو المسيحيّة) عن أيٍّ من الثوابت الايمانيّة من أجل أيّ هدف، بما في ذلك محاولة الاسترضاء، أو الاحتواء. فالاسلام يؤمن بالمسيحيّة رسالة من عند الله، ويؤمن بالسيّد المسيح وبالمعجزات الخارقة التي قام بها. كما بؤمن بعذريّة أمّه مريم التي فضّلها الله على نساء العالمين.
صحيح أنّ هناك اختلافاً وتبايناً بين صورة المسيحية في الإسلام وصورة المسيحيّة لدى المؤمنين بها. ولكن الصحيح أيضاً أنّ هذه الاختلافات والتباينات لم تحلّها لا العداوات والصراعات والحروب، ولا جلسات النقاش والجدال وحتّى الحوارات اللاهوتيّة – الفقهيّة العقيمة.
من أجل ذلك، لا بدّ من اعتماد ثقافة قبول الاختلاف واحترام المختلف معه، وترويج هذه الثقافة على أن يحكم الله بين المختلفين يوم القيامة. فالمهمّ هو إبراز الجوامع الإيمانيّة المشتركة وفي مقدّمها الايمان بالله الواحد، وباليوم الآخر، وبالثواب والعقاب، والقيم الأخلاقيّة التي يدعو اليها الدينان. وإذا جرى ذلك على قاعدة ثقافة الإقرار بالاختلاف وبحقّ المختلفين في أن يختلفوا وأن يرفعوا الحكم في اختلافاتهم الى الله وحده، يمكن عند ذلك الاطمئنان الى إمكان فكّ الارتباط بين الاختلاف والخلاف وجدوى هذا الأمر تالياً، يمكن بناء علاقات إسلاميّة-مسيحيّة على قاعدة الإخوة في الإيمان بالله الواحد، والإخوة في الإيمان بالوطن الواحد. ولكن في غياب – أو تغييب – مثل هذه الثقافة، فإنّ التداخل المجتمعيّ بين المسلمين والمسيحيّين في شتى أنحاء العالم يمكن أن يتحوّل حقل ألغام من العداء الموقوت.
لقد عاش المسلمون والمسيحيّون معاً في العالم العربيّ قروناً طويلة. ولم يعكّر صفو عيشهم المشترك سوى التدخّلات الخارجيّة، من حملات الفرنجة في العصور الوسطى، الى الحملات الاستعماريّة في العصر الحديث. وكان المسلمون والمسيحيّون العرب ضحايا تلك الحملات. وهم اليوم يدفعون معاً أيضاً ثمن زراعة إسرائيل في قلب العالم العربيّ وفي قلب المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة. من هنا يستطيع المسيحيّون والمسلمون العرب ان يلعب كلُّ منهم الدور المكمّل للآخر. الجسر المسيحيّ العربيّ مع العالم الغربيّ والمسيحيّ، والجسر الإسلاميّ العربيّ مع العالم الإسلاميّ.
بالنسبة الى الجسر الأوّل، هناك حاجة إسلاميّة ملحّة لتصحيح الصورة النمطيّة السلبيّة عن الإسلام في الثقافة والإعلام الغربيّين. ويعاني المسلمون الذين تغرّبوا من التمييز الدينيّ والعنصريّ في مجتمعاتهم الجديدة جرّاء هذه الصورة، وبخاصّة بعد رواج فرضية ربط الإسلام بالإرهاب. فالإسلام يصوّر في الغرب على أنّه دين يرفض الآخر ولا يتعايش إلا مع نفسه. وعلى أساس هذه الصورة المشّوهة، يعزو الغرب تعثّر محاولات تذويب المسلمين وفشلها في مجتمعاته.
يستطيع المسيحيّون العرب أن يشكّلوا جسراً معرفيّاً بين العالم العربيّ والغرب لتصحيح هذه الصورة. أولاً باعتبارهم عرباً عاشوا مع المسلمين العرب اجيالاً وقروناً عديدة ولا يزالون يعيشون معهم. فهم من إتنيّة واحدة، بل ومن عائلات واحدة (كما هو الأمر في لبنان مثلاً)، وثانياً باعتبارهم مسيحيّين تربطهم بالمسيحيّين الغربيّين خاصّة وبالغربيّين عامّة جذور ثقافيّة – دينيّة واحدة. إنّ قيامهم بدور الجسر لا يعني أنّهم عنصر مختلف أو منفصل عن المسلمين العرب، فهم امتداد للعمق الذي هم منه، وهو منهم.
ولكن لا يستطيع المسيحيّون العرب أن يؤدوا هذا الدور ما لم يكونوا متمتّعين بحقوق المواطنة الكاملة. وهذا امر يفرض إعادة النظر في بعض الإجراءات أو حتى في بعض القوانين المعتمدة في عدد من الدول العربيّة والتي تنتقص من هذه الحقوق او تفرض قيوداً عليها. فالمسلمون في الغرب يطالبون بحقوقهم المكتسبة كمواطنين، ولكن هذه المطالبة تبقى مطعوناً فيها ما لم يتمتّع المسيحيّون العرب في أوطانهم بحقوقهم الكاملة.
ثمّ إنّه إذا كان المسلمون المغتربون (المهاجرون الى الغرب) يشكّلون أقليات في دول أوروبيّة مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وسواها، أو في دول أخرى مثل الولايات المتّحدة وكندا وأوستراليا…، فإنّ المسيحيّين العرب والمسيحيّين المشرقيّين هم جزء من الاكثريّة العربيّة والمشرقيّة. وهم الذين ساهموا مع المسلمين – العرب وغير العرب – في إنتاج الحضارة الإسلاميّة، وفي المحافظة على التراث الثقافيّ واللغويّ العربيّ.
إنّ لهذا الجسر قاعدتين: قاعدة العروبة المتأصّلة في المسيحيّين العرب تاريخاً ومصيراً، وقاعدة المسيحيّة التي يؤمنون بها. فهم كعرب أصحاب قضيّة كالمسلمين العرب. وهم كمسيحيّين اصحاب عقيدة كالغربيّين (علماً بأنّ الغرب ليس المسيحيّة).
أمّا بالنسبة الى الجسر الثاني، فإنّ المسلمين العرب يستطيعون أن يشكّلوا جسراً معرفيّاً مع العالم الإسلاميّ – غير العربيّ – حيث تعيش أقلّيّات مسيحيّة متعدّدة يعاني بعضها سوء المعاملة المترتّب عن سوء المعرفة. فهناك مشاكل خطرة من جرّاء سوء المعرفة تعاني منها مجتمعات متعدّدة من اواسط أندونيسيا الى جنوب السودان فإلى شمال نيجيريا، مروراً بباكستان. من هذه المشاكل ما يتعلّق بتطبيق الشريعة الإسلاميّة، علماً بأنّ الشريعة الإسلاميّة نفسها تنصّ على مبدأ عدم تطبيقها الا على المسلمين، وعلى من يختار ذلك إرادياً وبكلّ حريّة من غير المسلمين. أمّا تطبيقها على المسيحيّين بالفرض والقوّة، فأمر تحرّمه الشريعة نفسها. وفرضها على غير أهلها انتهاك لها، وخروج عنها.
ومنها ما يتعلّق بالذميّة، وهو نظام انتهى العمل به بانتهاء الظروف والأوضاع التي أملته في حينه، وحلّ محلّه نظام المواطنة. وسوى ذلك من الاجراءات التي لم تكن في أساس العقيدة، بل كانت اجتهادات قضت بها ضرورات المرحلة التاريخيّة التي اعتمدت فيها. فالقاعدة الإيمانيّة في الإسلام هي “لا إكراه في الدين”، بمعنى أنّ الإيمان والإكراه لا يجتمعان، أي إنّه لا يكون إيمان بالإكراه.
إنّ تطبيع علاقات المسيحيّين في اوطانهم الأصليّة في الدول الإسلاميّة، وتطبيع علاقات المسلمين في أوطانهم الجديدة في الدول غير الإسلاميّة يتكاملان في الشكل والأساس. وهو تكامل يحتاج الى الجسرين معاً: الجسر المسيحيّ العربيّ مع العالم الغربيّ. والجسر الإسلاميّ العربيّ مع العالم الإسلاميّ.
وهذه مسؤولية عربيّة (اسلاميّة ومسيحيّة مشتركة) يمكن إذا ما اعتمدت ونجحت، أن تعيد الى العالم العربيّ حضوره ودوره في حضارة إنسان القرن الحادي والعشرين.