عادل تيودور خوري
إنّ كميّة القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة أكبرُ ممّا يَظنّ البعض. ونوعيّة هذه القيم المشتركة أفضلُ ممّا يتوهّم من لا يملك إلّا معرفة ضئيلة لما ورد في مصادر الوحي عند الدينَين، أي الإنجيل وأسفار العهد القديم عند المسيحيّين، والقرآن الكريم عند المسلمين، وأعمق ممّا يعي من لا يحكم في الأمور إلّا من خلال الاختبار العمليّ لبعض أحوال البُعد والنفور بين المسلمين والمسيحيّين.
ولا عجب في ان يكون الإسلام على هذا القرب من المسيحيّة، إذ إنّ النبيّ محمّدًا كان له إلمامٌ غير يسير بما جرى عليه الرهبان في مواطن نسكهم والرعايا المسيحيّة في البقاع الممتدّة بين شمالي الجزيرة العربيّة ومشارف فلسطين وسورية. فكان للقرآن ذكرٌ طيّب للرهبان في تعبُّدهم، وكانت أُولى مواضيع الدعوة القرآنيّة إلى المشركين في مكّة تشبه ما كان يكرز به القسّيسون عند إقامة شعائر عبادتهم في كنائسهم، وقد جاء فيها إنذارٌ بيوم الدين واقتراب ساعته، وحَضٌّ على التوجّه إلى الله الأحد والإقبال على خشيته وتقواه: “يَأَيُّها الناسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إنَّ زلزلة الساعةِ شيءٌ عظيمٌ” (الحجّ ٢٢: ١). وهذا مثلُ ما جاء في كرازة يوحنّا المعمدان (ويُسمّيه القرآن يحيى): “توبوا فإنّ ملكوت السماواتِ قد اقترب” (إنجيل متّى ٣: ٢)، ومثل ما بَشّر به يسوع المسيح، عيسى ابن مريم: “لقد تمّ الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (إنجيل مرقس ١: ١٥).
ثمّ إنّ ما نقرأ في صفحات القرآن الكريم من قَصص الأنبياء ومن أنباءٍ عن السيّد المسيح ومريم البتول أمّه، لدليل جليّ على أنّ الإسلام منذ مطلع دعوته كان يرى بين مقوّماته ومقوّمات المسيحيّة قرابةً فريدة.
فالقيم المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة التي نحن بصددها كثيرة في أصولها وفروعها. ولا يتّسع المجال هنا إلّا لذكر أهمّها. وهذه واضحة في مجالات ثلاثة: في مجال الإيمان، ومجال العبادة، ومجال الإحسان.
١. القيم المشتركة في مجال الإيمان
أهمّ مجالات الإيمان هو مجال الإيمان بالله. لا جَرَمَ أنّ هناك اختلافًا بين الإسلام والمسيحيّة حول ذات الله الباطنة وفي فروع الكلام عن الله وذاته وصفاته. ولكنّهما متّفقان على أصل التوحيد، أي القول بوحدانيّة الله في أصل العقيدة. ولذلك نسمع القرآن يُعلن في خطابه لليهود وللنصارى: “ولا تُجَادِلوا أهل الكتاب إلّا بالتي هي أحسنُ إلّا الذين ظلموا منهم وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إلينا وأُنزِلَ إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون” (العنكبوت ٢٩: ٤٦).
ودليل ذلك ما ورد من القول في أفعال الله وكيانه.
١) فالله في الإسلام والمسيحيّة هو الخالق، خلق السماوات والأرض، ولا سيّما الإنسان. وقد نهج الله في خلق الإنسان طريقة خاصّة، إذ جَبَلَه من التراب والطين ونفخ فيه من روحه. وهذا ما جاء في الفصل الثاني من سِفر التكوين في العهد القديم. ثمّ إنّ الله يخلق الكلّ، بما فيه الإنسان، بقدرة كلمته الخلّاقة: “بديعُ السموات والأرض وإذا قَضى أمرًا فإنّما يقول له كُن فيكون” (البقرة ١١٧). ومثل هذا ورد في الفصل الأوّل من سفر التكوين.
٢) والله هو المدبّر، يرعى خليقته بعنايته. جعل الأرض صالحةً لسكنى الإنسان وزوّدها بما يلزم لخدمة الحياة البشريّة وازدهارها. وأقام الإنسان خليفة في الأرض فأوكلها إلى مسؤوليّته. وهو لا يزال يرافق الإنسان في أحوال مصيره، يهديه ويمتحنه ويَعدُه بالثواب.
٣) والله هو الديّان الذي سوف يحاسب الناس على إيمانهم وأعمالهم ويعاقبهم بظلمهم ويجازيهم بثواب أعمالهم الصالحة.
٤) والله هو الأحد الذي لا إله إلّا هو، ولا شريك له في ملكه وقدرته. وقد اعتاد المسلمون الأتقياء أن يذكروا الله بأسمائه الحُسنى. وأكثر هذه الأسماء من التراث المشترك بين الإسلام والمسيحيّة، وإن كان المسيحيّون يزيدون عليها اسمًا هو في عقيدتهم يُجمِلُ أفضل ما يمكن قوله في الله. وقد ورد هذا الاسم في رسالة يوحنّا الأولى: “إنّ الله محبّة” (٤: ٨، ١٦).
٥) الله هو المُتعالي، يتسامى عن أفكار البشر وتصوّراتهم، ولا تدركه أبصارهم ولا أقوالهم. فيبقى سِرًّا في ذاته العميقة، إلّا ما كشف هو للبشر عنه في وحيه.
٦) وفي الواقع، كما تؤكّد الرسالة إلى العبرانيّين في العهد الجديد: “أنّ الله كلّم الآباء قديمًا مرارًا عديدة وبشتّى الطرق” (١: ١). وقد ورد مثلُ هذا في القرآن الكريم: “جاءتهم رسُلُهم بالبيّنات وبالزبر وبالكتاب المنير” (فاطر ٣٥: ٢٥).
فمتى أمعنّا النظر في ما ورد في العَرض من صفات الله وأفعاله، اتّضح أنّ هذه مقولات مشتركة بين الإسلام والمسيحيّة، وهي أصلٌ مشترك في الإيمان بالله عند الدينَين. ولذلك صحّ ما أعلنه القرآن الكريم، وقد جاء ذكره: “وإلهنا وإلهكم واحدٌ” (العنكبوت ٢٩: ٤٦). وقد أكّد، من جهة الكنيسة المسيحيّة الكاثوليكيّة، المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينات من القرن الماضي: “إنّ تصميم الخلاص يشمل أيضًا الذين يعترفون بالخالق، لاسيّما المسلمين الذين يُقرّون بأنّ لهم إيمان إبراهيم ويعبدون معنا الله الواحد الرحيم الذي سيدين البشر في يوم القيامة” (دستور عقائديّ في الكنيسة: نور العالم، ١٦٠).
٢. القيم المشتركة في مجال العبادة
نلاحظ في مجال العبادة أنّ هناك أمورًا مشتركة بين أركان الإسلام وأشكال التديّن المسيحيّ، وإن اختلفت شعائر ممارستها ودقائق القيام بفرائضها. فالإسلام والمسيحيّة لديهما كليهما الشهادة بالإيمان، والصلاة والدعاء، والزكاة، والصوم، والحجّ إلى الأماكن المقدّسة. ونكتفي هنا ببعض الإشارات إلى التقارب في العبادة بين الدينَين. فقد جاء في القرآن الكريم عن الصوم: “يأيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون” (البقرة ٢: ١٨٣). وهؤلاء هم الأمم والجماعات التي سبقت المسلمين، ومنهم اليهود والنصارى.
ثمّ إنّ التسابيح والأدعية التي نقرأها في القرآن وفي الحديث النبويّ فيها من النصوص ما هو قريبٌ جدًّا ممّا نجده في تراث الصلوات والأدعية المسيحيّة. ونورد هنا على سبيل المثال الصلاة التي علّمها السيّد المسيح تلاميذه، ونقابلها بما نُقل في الحديث الشريف.
قال السيّد المسيح في إنجيل متّى (٦: ٩-١٣): “فأنتم صلّوا هكذا: أبانا الذي في السّماوات، ليتقدّس اسمُك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. واترك لنا ما علينا كما تركنا نحن لمن لنا عليه. ولا تَدَعْنا في التجربة. بل نجّنا من الشرير”.
نقابل بين هذه الصلاة التي يتلوها المسيحيّون بطريقة متواصلة والدعاء الذي دوّنه أبو داود في سُنَنه (باب الطبّ، عن أبي الدرداء) عن النبيّ محمّد: “ربّنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمُك، أمْرُكَ في السماء والأرض. كما رحمتُك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض. اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنتَ ربُّ الطيبين. أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع فيبرأ”.
٣. القيم المشتركة في مجال الإحسان
إنّ أوضح ما يظهر التقارب في القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة هو في مجال الإحسان، في القِيم الأخلاقيّة وما ينتج منها من وصايا تأمر بالخير وتنهى عن الشرّ. ووصايا الله هذه مشتركة بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.
فقد وردت في التوراة مثلًا في سفر الخروج (٢٠: ٢-١٧) بالنصّ التالي:
أنا الربّ إلهك… لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي.
لا تحلف باسم الربّ إلهك باطلًا…
أذكر يوم الربّ لتقدّسه…
أكرم أباك وأمّك…
لا تقتل.
لا تزنِ.
لا تسرق.
لا تشهد على قريبك شهادة زور.
لا تشتهِ بيت قريبك. لا تشتهِ امرأة قريبك.
وقد ذكّر السيّد المسيح ببعض هذه الوصايا في الإنجيل، مثلًا في إنجيل مرقس (١٠:١٨-١٩)، ومثله في إنجيل متّى (١٩: ١٨-١٩)، وفي إنجيل لوقا (١٨: ٢٠).
ونقرأ نظير ذلك في القرآن الكريم، مختصرًا في سورة الأنعام (٦:١٥١-١٥٢)، ومطوّلًا في سورة الإسراء (١٧: ٢٢-٣٩). وإليك تفصيل تلك الوصايا الأخلاقيّة استنادًا إلى ما ورد في القرآن.
١) أساس القيم الأخلاقيّة هو الإيمان بالله وحده، وطاعته وفرائضه. أمّا التكبّر فيمقته الله لأنّه يُحوّل الإنسان عن الدين وعن عبادة الخالق. فالله لا يحبّ المستكبرين، ولا يرضى عن الذين يكفرون بنعمة ربّهم.
٢) والقرآن يشجب الإيمان التي يؤدّيها الإنسان استهتارًا، وكذلك من يلجأ إلى القَسَم دسًّا ومكرًا فنصيبه العذاب. أمّا إذا تسرّع الإنسان وأقسم طيشًا، كأنْ يحلف بحكم العادة، فلا يُطالب بذنبه، إنّما عليه أن يكفّر عن لغوه فيُطعم عشرة مساكين أو يصوم ثلاثة أيّام (راجع المائدة ٢: ٨٩).
٣) أمّا الصلاة الفرديّة وصلاة الجماعة نهار الجمعة، فهي فرضٌ على المؤمنين البالغين. وكذلك يُحرّض الأتقياء على ممارسة الأدعية والإكثار من ذكر الله. ومن جميل ما جاء في القرآن في الدعاء والصلاة آية في سورة البقرة (٢: ١٨٦): “وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أُجيبُ دعوةَ الدّاعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يَرشُدون”.
٤) ومن واجبات الإنسان أن يُكرم والديه وأن يعاملهما برفق، ويشكر لهما عناءهما في تربيته.
٥) ومن وصايا الله احترام الحياة والنهي عن القتل بلا مبرّر، ذلك أنّ القتل الاعتباطيّ هو أساسًا اعتداءٌ على البشريّة كلّها. وقد ذكر القرآن أنّ الله كتب في ذلك على بني إسرائيل: “أنّه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعًا” (المائدة ٥: ٣٢).
٦) أمّا بشأن الحبّ والأمور الجنسيّة فهي من أفعال الله في خلقه، فإنّه هو الذي خلق الرجل والمرأة وجعل بينهما “مودّة ورحمة” (الروم ٣٠: ٢١)، فيكون الرجل للمرأة وتكون المرأة للرجل، ويكون كلّ منهما لِباسًا للآخر. وهكذا تنشأ الأسرة بالزواج، ويتمّ إنجاب الأولاد، وتقوم البنية التي يحلُّ فيها ممارسة الجنس. ولقد حُرّم بناءً على ذلك البغاء والدّعارة واللواط والزنى.
٧) ويأمر الله بالعدل. فينهى عن الغشّ والتدليس في المعاملات والتجارة، ويأمر بتسليم الأمانات إلى أصحابها، كما يأمر بأن يُعطى كلّ إنسان ما يحقّ له. ومن أنواع العدل الرقيقة معاملة الضعيف والملهوف بالحُسنى. وإعانة الفقير والمُعْدَم.
٨) ومن المحرّمات في وصايا الله شهادة الزور، والنفاق والرّياء، والسعي بالنميمة والافتراء. فحبّ الحقيقة من ملزِمات الحياة، وإلّا لفسد المجتمع كلّه.
خاتمة
اتّضح ممّا جاء عرضه في هذه العجالة أنّ بين الإسلام والمسيحيّة علاقات قُربى، وإن باعدت بينهما بعض أيّام التاريخ. وقد يكون في حقبة التاريخ الحاضرة من المهمّ جدًّا العكوف على تبيان مفصّل للعناصر المشتركة بينهما في الدين والقيم الأخلاقيّة والقواعد المسلكيّة. فمثل هذه الدراسة ومثل هذا العرض يُمهّدان السبيل إلى فهم متبادل أدقّ وأوسع، وإلى تفاهم أكثر شملًا. وما أحوجنا إلى ذلك في عصر نعيش فيه معًا حاضرًا مشتركًا على الصعيد العالميّ، ونسعى فيه معًا إلى بناء مستقبل مشترك، نمارس فيه التضامن الشامل ونعود فنكتشف صدق ما صرّح به المجمع الفاتيكاني الثاني (وثيقة “في عصرنا” ٣):
“تنظر الكنيسة باحترام إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيّوم الرحيم القادر على كلّ شيء، خالق السماء والأرض، الذي كلّم البشر”.
ثمّ نعود فنختبر ونتذوّق ما أكّده القرآن الكريم في سورة المائدة (٥: ٨٢): “ولتجدَنّ أقربهم مودة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى…”