عظة المطران كيرلس سليم بسترس لقداس المكرّسين (21/3/2015)
“لأجلهم أقدّس نفسي لكي يكونوا هم أيضًا مقدَّسين بالحقّ” (يو 19:17)
أيها الأحباءّ! لقد أعلن قداسة البابا فرنسيس هذه السنة سنة الحياة المكرّسة. وفي رسالته عن هذه السنة وضع لها ثلاثة أهداف. الهدف الأول النظر إلى الماضي بامتنان. فكلّ مؤسَّسة من مؤسَّساتنا أتت من تاريخ مواهبيّ غنيّ. إنّ الذين أسّسوا رهبانياتنا اختبروا في ذواتهم شفقة يسوع حين كان يرى الجموع كرعيّة لا راعي لها، وكما تأثّر يسوع بهذه الشفقة فألقى كلمته وشفى المرضى، وأعطى خبزًا للجياع، وبذل حياته، كذلك خدم المؤسّسون الإنسانيّة التي أرسلهم الروح القدس إليها، وبطرق متنوّعة: من كرازة بالإنجيل، إلى تعليم مسيحيّ، إلى تربية، إلى خدمة الفقراء، إلى خدمة المرضى، إلى الصلاة والشفاعة. أيّها المكرّسون والمكرَّسات أنتم ورثة القديسين العظام الذين صنعوا تاريخ المسيحيّة. يقول قداسته: “ماذا يكون حال المسيحيّة بدون القديسين بندكتوس وباسيليوس وأوغسطينُس وبرنردوس وفرنسيس ودومينيك وإغناطيوس دي لويولا وتريزيا الأفيليّة ومنصور والطوباويّة تيريز كالكوتا”. ونضيف: وقديسينا الشرقيين: أنطونيوس ومارون وشربل ورفقة والحرديني؟ وتكاد القائمة تكون لا نهاية لها.
الهدف الثاني عيش الحاضر بشغف. فتذكُّرُ الماضي بامتنان يدفعنا إلى الإصغاء لما يقوله الروح القدس للكنيسة اليوم. والسؤال الذي نحن مدعوّون إلى أن نطرَحَه على أنفسنا في هذه السنة: هل إنّ الإنجيل في كلّ تطلّباته هو حقًّا خطّ حياتنا اليوميّة؟ هل إنّ يسوع هو حقًّا حبّنا الأزلي والوحيد، كما اخترنا ذلك حين أبرزنا نذورنا؟
الهدف الثالث لسنة الحياة المكرَّسة هو النظر إلى المستقبل برجاء وفرح. هناك صعوبات كثيرة تواجهنا: من قلة الدعوات الرهبانيّة، إلى التساؤل عن جدوى رسالتنا. يقول قداسته: “إنّ الرجاء الذي نتّكل عليه لا يتأسّس على أرقام ولا على أعمال، بل على الذي وضعنا ثقتنا به، وبالنسبة إليه “ما من شيء مستحيل”. هنا نجد الرجاء الذي لا يخيب، والذي يسمح للحياة المكرَّسة بأن تستمرّ. فلا تستسلموا لتجربة العدد والفعّالية، ولا سيّما تجربة الاعتماد على القوة الذاتية. لا تتّحدوا بأنبياء الشؤم الذين يعلنون نهايةَ، أو لا معنى، الحياة المكرَّسة في كنيستنا اليوم. “.
ثم يسأل قداسته: ما الذي أنتظره بوجه خاصّ من سنة النعمة هذه للحياة المكرّسة؟ ويجيب: أولاً أن يصحّ كلّ يوم ما قلته ذات يوم: ’حيث الرهبان والراهبات هناك الفرح‘؛ أن نكونَ مدعوّين لنختبر ونبيّن أنّ الله قادرٌ على ملء قلوبنا وجعلنا سعداء، من دون الحاجة إلى التفتيش عن مكان آخر عن سعادتنا؛ وأن تغذّيَ فرحَنا الأخوّةُ الصادقة التي نعيشها في جماعاتنا؛ وأن يساهمَ تفانينا في خدمة الكنيسة والعائلات والشبيبة والمسنّين والفقراء في تحقيق ذواتنا كأشخاص، ويمنح حياتنا الملءَ والفرح”. فلنجدّدْ إذن فرحَنا بتكرّسنا. إنجيلنا هو بشرى فرح، وعندما كرّسنا حياتنا لخدمة الإنجيل كرّسناها بفرح. فلا ينبغي أن ندعَ صعوبات الحياة تنزع منّا هذا الفرح. إنّ يسوع في حديثه الأخير مع تلاميذه، أنبأهم بموته ثم بقيامته، إذ قال لهم: “سأراكم من جديد، وستفرح قلوبُكم، وهذا الفرح لن يستطيع أحدٌ أن ينزعَه منكم”. يقول قداسته: “ألا تُشاهَدُ بيننا وجوهٌ حزينة، وأشخاصٌ مستاؤون وغيرُ راضين، لأنّ الوجه الحزين له نتائج محزنة. نحن أيضًا لدينا صعوبات مثل جميع الرجال والنساء: ليالي الروح المظلمة، خيبات أمل، أمراض، انهيار القوى بسبب الشيخوخة. فعلينا أن نحافظَ على فرحنا بالرغم من كلّ هذه المصاعب. وهذا الفرح هو الذي يجلب للكنيسة الدعوات. يقول قداسته:إنّ الحياة المكرَّسة لا تنمو من خلال تنظيم حملات للدعوات، بل إذا شعر الشباب الذين يلتقوننا بالانجذاب إلينا، إذا رأونا رجالاً ونساء سعداء. على حياتنا أن تتكلّم، حياةٍ يشعّ منها الفرح وجمال عيش الإنجيل واتّباع المسيح.
ما الذي ننتظره من هذه السنة؟ “ثانيًا، يقول قداسته، أنتظر أن ’توقِظوا العالَم‘. لأنّ السمة التي تميّز الحياة المكرَّسة هي النبوءة… أن نكون أنبياء نشهد كيف عاش يسوع على الأرض… النبيّ هو كالحارس الذي يسهر الليل كلّه ويعرف متى يظهر الفجر. أحيانًا، كما حدث لإيليّا ويونان، قد نقع في تجربة الهروب والانسحاب من مهمّة النبي، لأنّها متطلّبة جدًّا، لأنّنا تعبون، خائبون من النتائج. ولكنّ النبيّ يعرف أنّه ليس وحده فيها. ولنا أيضًا يقول الله كما قال لإرميا: “لا تخفْ، فأنا معكَ لأدافعَ عنكَ” (8:1).
“ثالثًا، يقول قداسته، أنتظر منكم ما أطلبه من كلّ أعضاء الكنيسة: الخروج من الذات للذهاب إلى الضواحي الوجوديّة: ’إذهبوا إلى العالَم كلّه‘، هذه آخر عبارة خاطب بها يسوع تلاميذَه، ولا يزال يخاطبنا بها اليوم. الإنسانيّة كلّها تنتظر: هناك أشخاصٌ فقدوا كلّ رجاء، عائلات تعاني صعوبات، أطفالٌ متروكون، شباب انغلَقَ المستقبل أمامهم مُسبقًا، مرضى ومسنّون مُهمَلون، أغنياء شبعوا من الخيرات وقلوبهم فارغة، رجالٌ ونساء يفتشون عن معنى حياتهم متعطّشون لله”. لذلك، يقول قداسته، “لا تنغلقوا على ذواتكم، ولا تجعلوا خلافات المنزل الداخلية تخنقكم؛ لا تبقوا سجناء مشكلاتكم. إنّها ستنحلّ إذا خرجتم وساعدتم آخرين على حلّ مشكلاتهم وأعلنتم البشرى. ستجدون الحياة حين تعطون الحياة، ستجدون الرجاء حين تبثّون الرجاء، ستجدون المحبة حين تعيشون المحبة”.
نطلب إليه تعالى أن يباركَ سنتَنا هذه ويباركَ حياتنا كلّها لنجدّد تكرّسنا ونستمرّ في الشهادة لإنجيل ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، إنجيل المحبة والسلام والبشرى الصالحة والفرح: “بشروا من يوم إلى يوم بخلاص إلهنا”. باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد آمين.