أيها الأحباء! إنّ طروبارية هذا النهار تختصر المعنى اللاهوتي لهذا العيد. وهي مكوّنة من أربع مقاطع يفسّر أحدها الآخر بالتتالي: 1) اليوم بدء خلاصنا. 2) ما هو هذا الخلاص؟ إنّه ظهور السرّ الذي منذ الأزل. 3) وما هو هذا السرّ الذي منذ الأزل؟ إنّ ابن الله يصير ابن البتول وجبرائل بالنعمة يبشّر. 4) فلنهتف معه نحو والدة الإله: إفرحي يا ممتلئة نعمة، الرب معك”.
بدء الخلاص هو إذن تجسّد ابن الله الذي صار ابن البتول. وهذا التجسّد لم يحدث بسبب خطيئة الإنسان، خطيئة آدم وحواء، او ما يدعوه التقليد “الخطيئة الأصليّة”, بل هو مقرَّرٌ منذ الأزل. فقبل أن يخلقَ الله الإنسان في الزمن، كان قد قرّر تجسّد كلمته ليصل بالإنسان الذي خلقه إلى الإنسان البالغ أي إلى حالة التبنّي الإلهيّ، فيجعل من الناس أبناءه باتّحادهم بابن الله. هذا ما يفسّره بولس الرسول في رسالته إلى الأفسسيّين، فيقول: “تبَارَك اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح، الَّذِي غمرنا من علياء سمائه بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي الْمَسِيح، إذ فيه قد اخْتَارَنَا عن محبة من قَبْل إنشاء الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِغير عيب أمامَهُ، وسَبَقَ فَحدّد أن نكون له أبناء بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (3:1-5).
فالقرار الأزليّ، قرار التبنّي الإلهيّ، تحقّق في ملء الزمان الذي تكلّم عنه بولس الرسول في رسالته إلى الغلاطيّين: “لمّا بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس وننال التبنّي” (4:4). وهذا التبنّي الإلهيّ يتكلّم عنه يوحنا أيضًا في فاتحة إنجيله، فيقول: “في البدء كان الكلمة… فيه كانت الحياة… أتى إلى خاصته وخاصته لم تقبله. أمّا الذين قبلوه، أولئك الذين يؤمنون باسمه، فقد أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، أبناءً لم يولدوا لا من دم ولا من رغبة جسد ولا من إرادة رجل بل من الله وُلِدوا. والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا مملوءًا نعمة وحقًّا. وقد رأينا مجده، مجدًا من الآب لابنه الوحيد” (12:1-14). ويعود في رسالته الأولى ليؤكّد هذا التبنّي الذي يعدّه دليلاً على محبة الله لنا، فيقول: “اُنْظُرُوا بأَيَّةِ مَحَبَّةٍ خصّنَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ! ونحن في الواقع كذلك. ومن ثَمَّ، فإن كان الْعَالَمُ لاَ يَعْرِفُنَا، فلأَنَّهُ لم يَعْرِفُهُ. أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، نَحْنُ من الآنَ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يتبيَّنْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُون. غير أنّنا نَعْلَمُ أَنَّا، إِذَا ما ظهرَ سنَكُونُ أمثالَهُ، لأَنَّنَا سَنُعاينهُ كَمَا هُوَ” (1:3-2). فمن خلال تجسّد ابن الله الوحيد، يحصل الذين يؤمنون به على التبنّي الإلهيّ. وهذا التبنّي الإلهيّ هو النعمة التي بشّر بها جبرائيل بقوله للعذراء: “إفرحي يا ممتلئة نعمة”.
ثمّ يُضيف الملاك: “الربّ معكِ”. هذا القول يذكّرنا بما نقرأه في إنجيل متى عن تحقيق نبؤة أشعيا: “إذ ظهر مَلاَكُ الرَّبِّ ليوسف فِي الحُلْمٍ قَائِلاً: ’يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. فإنّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا إنّما هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. وَسَتَلِدُ ابْنًا فتسميه يَسُوع، لأَنَّهُ هو الذي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وكان هذَا كُلُّهُ ليَتِمَّ مَا قال الرَّبّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: ’ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمه عمانوئيل‘، أي الله معنا” (23:1). “اليوم بدء خلاصنا”، لأنّ الله معنا في شخص ابنه يسوع المسيح، الذي بواسطته نحصل على نعمة التبنّي. وهذا ما يؤكّد أيضًا يوحنا في فاتحة إنجيله: “أجل، مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ كلّنا أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَة. لأَنَّ النَّامُوسَ أُعْطِيَ بِمُوسَى، وأَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ قد حصلا” (16:1-17).
ماذا يعني هذا كلّه بالنسبة إلينا نحن الغارقين في هموم الحياة ومشكلات الزمن الحاضر؟ في اللغة اليونانيّة هناك لفظتان للحياة: bios ، وهي الحياة البيولوجيّة من ولادة ومأكل ومشرب وعمل، وهي التي يُشير إليها يوحنا بقوله: “هؤلاء الذين وُلِدوا من دم ومن رغبة جسد ومن إرادة رجل”. وهناك لفظة ثانية وهي zoé، وتعني الحياة الممتلئة من الله، ويقول عنها يوحنا :”هؤلاء وُلِدوا من الله”. وهي التي قال عنها يسوع: “أمّا أنا فقد أتيت للخراف الحياة، وتكون لهم وافرة” (يو 10:10).
اليوم بدء خلاصنا. كلّ يوم علينا أن نختارَ: إمّا أن نبقى غارقين في هموم الحياة البيولوجيّة، فيُطبَّق علينا ما يقوله يسوع في مثل الزارع: “الذين يتلقون الزرعَ في الشوك هم الذين يسمعون الكلمة، ولكنّ همومَ الحياة الدنيا، وفتنةَ الغنى، واجتياحَ سائر الشهوات، تخنق الكلمةَ فلا تؤتي ثمرًا” (مر 18:4-19). وإمّا أن نطبّق ما سنسمعه في النشيد الشيروبيمي: “فلنطرحْ عنا كلّ اهتمام دنيويّ لنستقبل ملك الكلّ”. إذّاك يكون ’عمّانوئيل‘ الربّ معنا، فندخل منذ الآن في الملكوت السماوي، ونحيا حياة أبناء الله، ونمتلئ من ملء الله، ونحصل على النعمة الخلاص. ونرتّل مع الكنيسة: “استبشري أيتها الأرض بالفرح الأعظم، وسبّحي أيّتها السماء مجدَ إلهنا”، أي حضور إلهنا الذي بتجسّده أتى إلينا وأقام سكناه بيننا وفينا.
“بشروا من يوم إلى يوم بخلاص إلهنا”. ولتكن نعمة ربّنا يسوع المسيح ومحبّة الله الآب وشركة الروح القدس معكم أجمعين. آمين.