عظة لعيد البشارة : حضور النعمة
في 24 آذار 2014 احتفل راعي الأبرشية المتروبوليت كيرلس سليم بسترس بالقداس الاحتفالي في دير سيدة البشارة للراهبات الباسيايات الشويريات وألقى العظة التالية
“بشّروا من يوم إلى يوم بخلاص إلهنا”. “اليوم بدء خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الأزل. فإنّ ابن الله يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنعمة يبشّر”.
أيها الأحباء. ما هو هذا السرّ منذ الأزل الذي ظهر في حدث البشارة؟ هذا السرّ هو أنّ الله منذ الأزل قد قرّر أن يتجسّد ابنه. فتجسّد ابن الله لم يحدث بسبب خطيئة آدم وحواء، كأنّ الله غيّر تصميمه في الزمن بعد تلك الخطيئة. لذلك يقول آباؤنا الشرقيّون إنّ التجسّد مقرَّر منذ الأزل، سواء أخطئ آدم أم لم يخطأ. فهدف التجسّد ليس أوّلاً التكفير عن الخطيئة بل منح النعمة للإنسان أي رفعه إلى درجة الألوهة، كما أكّد آباؤنا أيضًا منذ القديس إيريناوس الذي قال: “صار ابنُ الله إنسانًا ليجعل من كلّ إنسان ابنًا لله”.
نحن كلّنا خطأة. ولا يمكننا محاربة الخطيئة فينا إلاّ من خلال الامتلاء من النعمة، التي هي دخول الله إلى ذاتنا وتجديده إيانا ودعوتنا إلى رتبة الألوهة. الله أتى إلينا ليعرضَ علينا النعمة. “أتى إلى خاصّته، وخاصّته لم تقبله. أمّا الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، هم الذين لم يولَدوا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من إرادة رجل، بل من الله” (يو 12:1-13). نحن المسيحيّين قبلنا النعمة، ووُلِدنا ولادة جديدة “من فوق” (يو 3:3). إنّ مسيحيّتنا لم تأت لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من إرادة رجل، بل من الله”. نحن أتينا من الله. الله لا يفرض نفسه علينا، بل يريد منّا جوابًا حرًّا، جوابَ حبيب لحبيبه. لقد خلقنا على صورته ومثاله. بالخطيئة نفقد المثال، لكنّ الصورة تبقى فينا، وهي التي لا تزال تشدّنا للعودة إلى الله. مشكلة الإنسان أنّه يحب خطيئته ويفعلها استلذاذًا. الإنسان يحبّ العيش في الظلمة، ولا يقضي على الظلمة إلاّ الدخولُ في النور. الإنسان العائش في الظلمة قبيح ويستَطْيِب القبائح، كما يقول بولس الرسول: “إنّ الأفعال التي يفعلونها في السرّ يقبح حتى ذكرُها” (أف 12:5؛ راجع 8:5-14). ولا يقضي على القبائح إلاّ حبُّ البرّ. لا يكفي أن نندم ونتحسّر على خطيئتنا لنتغلّبَ عليها. يجب أن نحبَّ البرَّ ونفرح به، ونقتنع في عمق ذاتنا أنّ حياة البرّ أفضل من حياة الدنس. إذّاك نعود إلى أبينا السماويّ لنحيا معه حياة البنوّة (راجع مثل الابن الضالّ). لا يمكننا أن نقضي على الخطيئة إلاّ إذا ملأ حبّ الله كياننا، أي إذا أدركنا أنّ الله أبهى من ملذاتنا. اللذة مستطابة، فإن لم نؤثر الله عليها تغلبنا. إذا قوي فرحنا بالله على كل لذّة يجذبنا الله إليه. لذلك يجب ان نغذّي فرحنا به، لأنّ الإقامة ان لم تكن عند الله فهي عند الشرير.
“إفرحي يا ممتلئة نعمة، الربّ معكِ”. هذه هي البشرى الأساسيّة، وهذا هو جوهر المسيحيّة: أن نفرح بأنّ النعمة قد أتت إلينا، والنعمة هي حضور الربّ بروحه القدوس يملأ كياننا. وجواب المؤمن الذي قبل عطية الله لا يمكن أن يكونَ إلاّ جواب مريم: “ها هي أمة الربّ بين يديك، فليكن لي بحسب قولكَ”. لا مشيئة لنا سوى أن نعملَ مشيئتك. لا فرح لنا إلا بالعيش معك. تعليقًا على قول المسيح: “من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مر 34:8)، قال القديس أوغسطينوس: “هناك حبّان لا ثالث لهما: “إمّا حبّ الله وازدراء الذات، وإمّا حبّ الذات وازدراء الله”. الكنيسة في فترة الصيام تدعونا إلى الاختيار: إمّا السكنى في الخطيئة، وإمّا السكنى في الله. إمّا الإقامة في الظلمة وإمّا الإقامة في النور. الكنيسة تدعونا إلى التحرر من الخطيئة، وذلك من خلال قبول محبة الله. الله تجسّد في شخص ابنه يسوع المسيح ليمكثَ معنا. إنّه “عمّانوئيل” الله معنا. المكوث عند المسيح شعور يجب أن يكون أقوى من التحرّر من الخطيئة. التحرّر من الخطيئة هو بدء الفرح. أما الفرح الكامل فعيشنا مع يسوع. من دون الله نبقى في الموت. حياتنا لقاءٌ بين رغبتين: رغبتنا في الارتقاء إلى الله – وهي رغبة جميع الأديان في الوصول إلى الله -، ورغبة الله بالمجيء إلينا ليجعلنا أبناء له ويملأنا من روح قُدْسه. وتلك الرغبة قد حقّقها في شخص يسوع المسيح. هذا هو معنى عيد البشارة الذي نحتفل به اليوم، هذا ما بشّر به الملاك جبرائيل مريم العذراء. وهذا ما نحن مدعوّون إلى التبشير به وعيشه كلّ يوم من أيّام حياتنا: “بشّروا من يوم إلى يوم بخلاص إلهنا”. آمين.