“لماذا تطلبانني؟ ألم تعلما أنّه ينبغي لي أن أكونَ في ما هو لأبي؟” هذا ما قاله يسوع لأمه وهو في الثانية عشرة من عمره، عندما وجدته في الهيكل. تقول الرسالة إلى العبرانيّين إنّ يسوع المسيح، عند دخوله العالم، قال: “ذبيحة وقربانًا لم تشأ؛ غير أنّكَ هيأتَ لي جسدًا… حينئذٍ قلتُ: ها أناذا آتي… لأعملَ، يا الله، بمشيئتكَ” (5:10-6). كان يسوع، طوالَ حياته وحتى مماته، يعمل بمشيئة الله. أن يعملَ بمشيئة الله يعني أن يجسّدَ في العالَم المنظور صورةَ الله غير المنظور. يسوع المسيح هو صورة الله، التي من خلالها انكشفَ لنا وجه الله: “فالله لم يرَه أحدٌ قطّ. الابنُ الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يوحنا 18:1).
إذا كانت لنا أمنيةٌ في بدء هذه السنة فهي أن نتابعَ في حياتنا تجسُّدَ الله كما ظهر لنا في شخص صورته يسوع المسيح. إنّ الكيانَ الإلهيّ المتسامي الذي لا يستطيع أحد الوصولَ إليه قد أتى إلينا وسكن بيننا في شخص ابنه وكلمته يسوع المسيح، “وقد رأينا مجدَه” (يوحنا 14:1). مجد الله يعني حضورَ الله. كثيرًا ما نتساءل: “أين يوجَد الله”؟ جواب المسيحيّة هو أنّ الله لا يمكن أحدٌ أن يراه، مع أنّه كائن في ذاته منذ الأزل. لكن بيسوع المسيح تحقّق في التاريخ وجود الله الكائن في ذاته منذ الأزل في ما قبل التاريخ. ومنذئذ انقسم التاريخ قسمين: قبل المسيح وبعد المسيح. فالمسيح هو النقطة الفاصلة بين الزمن الذي كان فيه الناس يبحثون عن كيان الله والزمن الذي فيه ظهر الله في كامل صورته. فالمسيح هو الذي أوجدَ في الزمن صورةَ الله الذي هو ما قبل الزمن. كيان الله الأزلي أصبح وجودًا في الزمن من خلال يسوع المسيح. ونحن المسيحيّين لم نعدْ نتساءَل “أين يوجد الله”؟ بل “كيف نعمل لكي نوجِدَ الله كما أوجدَه يسوع المسيح في حياته وموته وقيامته”؟ ما الذي ينبغي أن نفعله لكي نحقّقَ في ذواتنا وفي مجتمعاتنا صورةَ الله كا ظهرت في شخص يسوع المسيح؟ ومن ثمّ لم تعد المسؤوليّة تقع على الله إذا كان العالَم يسوده الشرّ بكلّ أنواعه من ظلم وعنف وقتل ودمار. بل تقع علينا نحن الذين أوكلنا الله بهذا العالَم وأوكلَ بعضَنا ببعض. عندئذ لا نعود نسألَ عن سبب عدم تدخّل الله لمنع الشرّ وردع الظلم، بل نسأل بالحريّ أنفسَنا عمّا فعلناه نحن للتسبّب بالشرّ. والله لا يزال يتكلّم في داخلنا. فعندما يقتل أحدُنا الآخر كما فعل قايين بأخيه هابيل، نسمع صوتَ الله يدوّي في داخل قلبنا: “قايين، قايين، أين أخوك؟” وقد نجيب كما أجاب قايين: “ألعلّي حارسٌ لأخي؟” أجل، أيّها الأحبّاء، كلّ منّا حارسٌ لأخيه. هذه المسؤوليّة قد ألقاها الله على عانقٍ كلٍّ منّا، كما ألقى على عاتقنا مسؤوليّة الاعتناء بالأرض التي خلقها الله من أجلنا.
في هذه السنة الجديدة نرجو أن يعودَ كلٌّ منّا إلى ذاته ليسألَ نفسَه عمّا يجب عليه أن يفعلَه ليجسّد في حياته وفي مجتمعه صورةَ الله، إله المحبّة والرحمة والعدل والسلام. كلّ يوم يقول لنا الله: “اذهب اليوم، يا بُنيَّ، واعمل في كرمي” (متى 28:21). “وهذه وصيّتي لكم: أحبّوا بعضُكم بعضًا كها أنا أحببتُكم… لقد أرسلتكم لتأتوا بثمار وتدومَ ثمارُكم” (يو 12:15، 16). بالمسيح ابن الله أصبحنا أبناء الله، وأرسل إلينا الله روحه القدوس ليثمرَ فيها ثمار الروح التي عدّدها بولس الرسول بقوله: “أمّا ثمار الروح فهي المحبة والفرح والسلام، وطولُ الأناة واللطفُ والصلاح، والأمانة والوداعة والعفاف” (غلاطية 22:5-23).
تلك الثمار هي ما نتمنّاه لكلّ منكم في هذه السنة الجديدة، كما نتمنّى لجميع اللبنانيّين، وبنوع خاصّ لرجال السياسة في وطننا، أن يثمروا تلك الثمار الروحيّة، فيتخلّوا عن مصالحهم الشخصيّة وينظروا إلى مصلحة الوطن، ليتمكّنَ لبنان من تحقيق رسالته في هذا العالَم العربيّ الممزَّق الذي يبحث عن مصيره. ولا مصيرَ له ولا مصير لأيّ منّا إلا بالعودة إلى الله كأبٍ واحد لنا جميعًا والعودة بعضنا إلى بعض كإخوة في الله وكمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وكلّ عام وأنتم بخير.
+ كيرلس سليم بسترس
متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الملكيّين الكاثوليك