عادل تيودور خوري
إنّ الخلاص في مفهومه، وبالنسبة إلى البحث عن الوسائل المؤدّية إليه، يشغل مقامًا واسعًا وأساسيًّا في تعاليم الأديان. سأعالج في هذا الحديث موضوع خلاص المسيحيّين في الكتابالمقدّس، وهنا حصرًا في العهد الجديد. ويتطرّق عرضي إلى النقاط التالية:
- مفهوم الخلاص وأبعاده.
- مانح الخلاص، ووسيط الخلاص.
- وسائل الخلاص.
- من يخلُص؟ وهنا أعرض الاستنتاجات المتعلّقة بخلاص غير المسيحيّين.
1. مفهوم الخلاص وأبعاده
1) يقوم الخلاص في مبدئه على أنّ الله لفرط عطفه ومحبّته يمنح المصالحة مع نفسه، والتمتّع بقربه جميع الذين يتوبون إليه، ويلتمسون رضاه، ويرجون غفرانه، ويفتحون قلوبهم لتقبّل مواهبه، ويسيرون في طاعته وسلامه. من هذا أنّ الله لفرط محبّته، بذل ابنه الوحيد “لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (يوحنّا 3: 16). فيسوع المسيح، كما ورد في رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي، أنهضه الله “من بين الأموات، وهو الذي ينقذنا من السخط الآتي”، أي من غضب الله وبُعده. وقد تبلور هذا التعليم في ما تسلّمه بولس الرسول في بشارته: “إنّ المسيح قد مات من أجل خطايانا، على ما في الكتب” (1 كورنثس 15: 2-4)، “وأُسلم لأجل زلاّتنا، وأُقيم لأجل تبريرنا” (رومة 4: 25)، هو “الذي بعد أن طهّرنا من خطايانا، جلس عن يمين الجلال في الأعالي” (عبرانيّين 1: 3).
فصلة الإنسان التائب بالله تثمر في قلبه، وتوثق علاقته بالمسيح يسوع “الذي يبرّر كلّ من يؤمن. لأنّك إن اعترفتَ بفمك أنّ يسوع هو ربّ، وآمنت في قلبك أنّ الله قد أقامه من بين الأموات، فإنّك تخلص” (رومة 10: 9).
2)من مفاعيل الخلاص بابن الله يسوع المسيح هو أنّ المبرَّرين يمنحهم الله الحياة الأبديّة. جاء في رسالة يوحنّا الأولى: “فها هي ذي الشهادة: أنّ الله أعطانا الحياة الأبديّة، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فله الحياة. ومن ليس له ابنُ الله فليست له الحياة” (1 يوحنّا 5: 11-12).
وتعبّر آيات العهد الجديد عن هذه الحياة الأبديّة، من بين الأوصاف المختلفة، بأنّها اشتراك في مجد المسيح وفي مجد الله الآب:
– “لأنّ الإله الذي قال: ليشرق من الظلمة نورٌ. هو الذي أشرق في قلوبنا، لكي تسطع فيها معرفة مجد الله (المتألّق) في وجه المسيح” (2 كورنثس 4: 6).
– وفي صلاة يسوع إلى الآب قبل آلامه يقول: “وقد أعطيتُهم المجد الذي أعطيتني، لكي يكونوا واحدًا مثلما نحن واحد” (يوحنّا 17: 22).
– ويتكلّم الرسول بولس مرارًا عن هذا المجد الذي يُعدّه الله للذين آتاهم التبرير في المسيح يسوع:
- “إنّي لأَحسَب أنّ آلام هذا الدهر الحاضر لا يمكن أن تُقابل بالمجد المزمع أن يتجلّى لنا” (رومة 8: 18).
- “إنّ ما ننطق به إنّما هو حكمة الله التي في السرّ، المكتومة، التي سبق الله فحدّدها قبل الدهور لمجدنا” (1 كورنثس 2: 7).
- “ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كولُسّي 3: 4).
- “وإلى هذا قد دعاكم بتبشيرنا بالإنجيل لتقتنوا مجد ربّنا يسوع المسيح” (2 تسالونيكي 2: 14).
3) ويذهب خلاص الله إلى أبعد من ذلك، إلى درجة قصوى لا يمكن استقصاء أعماقها. انطلاقًا من يقين الإيمان القائل مع بولس الرسول: “وبه (أي بالله) أنتم في المسيح يسوع، الذي صار لنا من الله حكمة وبرًّا وقداسة وفداء” (1 كورنثس 1: 30)، يكشف لنا الروح على يد رسوله بولس: “بل أخذتم روح التبنّي الذي به ندعو: أبّا! أيّها الآب! فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله. أولادٌ، فإذن ورثة أيضًا؛ ورثة الله ووارثون مع المسيح، إن كنّا نتألّم معه لكي نتمجّد أيضًا معه” (رومة 8: 15-16). ونقرأ نصًّا موازيًا لهذا في رسالته إلى الغلاطيّين 4: 4-6.
4) نقرأ في رسالة بولس إلى الكولسيّين مقطعًا يمكن اعتباره مختصرًا لمفهوم الخلاص وأبعاده: “وتشكرون بفرح للآب الذي أهّلكم للشركة في ميراث القدّيسين في النور؛ الذي انتزعنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب، الذي لنا فيه الفداء، مغفرة الخطايا… ففيه ارتضى (الله) أنّ يُحلَّ المِلءَ كلّه، وأن يصالح به لنفسه كلّ ما على الأرض وفي السماوات، بإقرار السلام بدم صليبه” (كولسّي 1: 19 – 20).
2. مانح الخلاص ووسيط الخلاص
لقد اتّضح من الآيات التي أوردناها أنّ مانح الخلاص هو الله، وأنّ وسيط الخلاص هو المسيح يسوع.
جاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس نصّ واضح في هذا الأمر. يقول عن الله مخلّصنا، إنّه “يريد أنّ جميع الناس يخلصون ويبلغون إلى معرفة الحقّ. لأنّ الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان المسيح يسوع، الذي بذل نفسه فداءً عن الجميع” (1 تيموثاوس 2: 4-5).
وجاء على لسان القدّيس بطرس الرسول في أعمال الرسل: “فإنّه لا خلاص بأحد سواه، إذ ليس تحت السماء اسمٌ آخر أعطي للناس به ينبغي أن نَخلُص” (أعمال 4: 12).
3. وسائل الخلاص
1) الإيمان: أمّا وسائل الحصول على الخلاص فتبيّنها لنا نصوص مختلفة من العهد الجديد. نذكر منها أوّلاً الإيمان:
– ورد في رسالة القدّيس بولس إلى الرومانيّين ما يلي:
- “لأنّ غاية الناموس هي المسيح الذي يبرّر كلّ من يؤمن” (رومة 10: 4).
- “لأنّك إن اعترفتَ بفَمِك أنّ يسوع ربّ، وآمنتَ في قلبك أنّ الله قد أقامه من بين الأموات، فإنّك تخلص” (رومة 10: 9).
- “فإذ قد بُرّرنا الإيمان فنحن في سِلم مع الله بربّنا يسوع المسيح، الذي نلنا به أن ندخل (بالإيمان) إلى هذه النعمة التي نحن مقيمون فيها وأن نفتخر في رجاء مجد الله” (رومة 5: 1-2).
-وجاء في رسالة بولس إلى الغلاطيّين: “فإذا علمنا أنّ الإنسان لا يُبرّر بأعمال الناموس، بل بالإيمان بيسوع المسيح، آمنّا نحن أيضًا بالمسيح يسوع لكي نبرّر بالإيمان بالمسيح، لا بأعمال الناموس” (غلاطية 2: 16).
2) فعل الخير: ورد في رسالة بولس الرسول إلى الرومانيّين: “المجد والكرامة والسلام [هذه من أوصاف الخلاص] لكلّ من يصنع الخير، اليهوديّ أوّلاً ثمّ اليونانيّ” (رومة 2: 10). ونقرأ في رسالة يوحنّا الأولى: “إذا ما عملتم أنّه (أي يسوع) بارّ، فاعلموا أنّ كلّ من يعمل البرّ مولودٌ منه” (1 يوحنّا 2: 29).
4. من يَخلُص؟… خلاص غير المسيحيّين
إن كانت مشيئة الله أن يخلص جميع الناس، وإن كان يسوع المسيح هو وسيطَ الخلاص الوحيد الذي بدونه لا يخلص أحد، فهنا يقوم السؤال: كيف يمكن ربط مقادير البشر بمعرفة المسيح، حتّى يوقنوا من أنّه المخلّص الوحيد ويؤمنوا به ويحصلوا بذلك على خلاصه؟
1) خلاص الأجيال السالفة: لا تُعتبر الأجيال السالفة خارجةً عن وساطة المسيح، إذ إنّ مشيئة الله الخلاصيّة الشاملة قد حَدَّدت منذ الأزل أن يكون خلاص جميع الناس متعلّقًا بوساطة المسيح، أعَلِم البشر هذا أم لم يطّلعوا عليه، أعاشوا قبل مجيء المسيح بالجسد أم بعد مجيئه. نقرأ في ذلك ما جاء في رسالة بولس الرسول إلى الأفسسيّين: إنّ الله “سبق فحدّد، على حسب مرضاته، أن نكون له أبناءً بيسوع المسيح لتمجيد نعمته السنيّة التي أنعم بها علينا في الحبيب، وفيه لنا الفداء بدمه ومغفرة الزلاّت على حسب غنى نعمته التي أفاضها علينا بملء الحكمة والفطنة، بإعلانه لنا، على حسب مرضاته، سرّ مشيئته الذي سبق فقصده في نفسه، ليحقّقه عند تمام الأزمنة: أي أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كلّ شيء، ما في السماوات وما على الأرض” (أفسس 1: 5-10).
حول قصد الله الخلاصيّ الشامل في المسيح يسوع يؤكّد بولس الرسول في رسالته الثانية إلى تيموثاوس عن الله: إنّه هو “الذي خلّصنا ودعانا دعوة مقدّسة، لا نظرًا لأعمالنا، بل نظرًا لقصده الخاصّ، ونعمته التي أُعطيناها في المسيح يسوع، من قبل الأزمنة الدهريّة، وأُظهرت الآن بتجلّي مخلّصنا يسوع المسيح، الذي أباد الموت وأبان الحياة والخلود بواسطة الإنجيل” (2 تيموثاوس 1: 9-10).
أمّا سبيل الاتصال بالمسيح بالنسبة إلى الأجيال السالفة فيقوم على أساس الإيمان، كما ورد مفصّلاً في الرسالة إلى العبرانيّين، ابتداءً من هابيل وأخنوخ ونوح مرورًا بإبراهيم واسحق ويعقوب، ثمّ بموسى ومن جاء بعده، مثل داود وصموئيل والأنبياء (راجع عبرانيّين 11: 3-40). يختصر النصّ وسيلة الخلاص هذه بعبارتين:
– “أمّا الإيمان فهو قوام المرجوّات، وبرهان غير المرئيّات، به شُهِد للأقدمين شهادة حسنة” (عبرانيّين 11: 1-2)
– “بدون إيمان يستحيل إرضاء (الله)، إذ لا بُدّ لمن يدنو إلى الله، أن يؤمن بأنّه كائن، وأنّه يثيب الذين يبتغونه” (عبرانيّين 11: 6).
2) خلاص غير المسيحيّين: لنوجز المعطيات التي وجدناها في العهد الجديد:
يتبيّن من العهد الجديد، بكلّ جلاء ووضوح، أنّ الله يريد الخلاص لجميع الناس. فالإنجيل “قدرة الله لخلاص كلِّ من آمن” (رومة 1: 6). والله “يريد أن يخلُصَ جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحقّ” (1 تيموثاوس 2: 4). وإرادة الله هذه، الرامية إلى خلاص الجميع، تتحقّق في يسوع المسيح، وبواسطة يسوع المسيح تشمَلُ جميع الناس، لأنّ الجميع مدعوّون إلى الخلاص بالنظر إليه (1 تيموثاوس 2: 5 / أعمال 4: 12). فالسبيل الطبيعيّ للخلاص يمرّ إذًا عَبْرَ يسوع إلى الآب. وهذا السبيل يتمثّل بصورته الأرضيّة في الكنيسة التي تسير، هي أيضًا، نحو التنقية الكاملة والامتلاء التام في ملكوت الله، آخر الأزمنة.
ومع ذلك، فليس الله، في مشيئته المطلقة وتساميه الذي لا يُدرَك، مرتبطًا – في جميع الأحوال – بالشكل الأرضي الذي تتّخذه الكنيسة. فهو يَمُنُّ بنعمته على جميع الناس ذوي النيّة الطيّبة، حتّى لو كانوا بعدُ خارج الكنيسة المرئيّة. هذا ما يعبّر عنه بوضوح أمر قائد المئة الوثنيّ كُرنيليوس، وقد آمن بيسوع وحلّت عليه وعلى ذويه نعمة الروح القدس، قبل أن ينالوا المعموديّة (راجع أعمال 10: 44). هؤلاء يخلّصهم الله بنعمة المسيح إذا بذلوا جهدهم للبحث عن الله والتوجّه إليه. أمّا مقتضيات البحث عن الله والتوجّه إليه فهي بحسب معطيات العهد الجديد، كما يلي:
الإيمان بالله، ويمكن أن يتّخذ شكلاً أساسيًّا ينطوي في حدّ ذاته على مدلول خلاصيّ ومفعول خلاصيّ: “بدون إيمان يستحيل إرضاءُ الله، إذ لا بُدّ لمن يدنو إلى الله، أن يؤمن بأنّه كائن وأنّه يُثيب الذين يبتغونه” (عبرانيّين 11: 6).
الأمر الثاني يعتمد الجانب العمليّ للحياة المستمَدّة من الإيمان. فكما أنّ الإيمان الذي يخلِّص يجد تعبيرًا عن نفسه بالأعمال الصالحة، فكذلك يمكن الاستنتاج أنّ مَن عَمِل صالحًا، فلا بُدّ أن تعملَ فيه النعمة وأن يكون الإيمان حاضرًا في قلبه ولو كغرسة في طور النشوء، ولو لم يعِ بَعْدُ ذاته. “المجد والكرامة والسلام لكلّ مَن يعملُ الخير… (رومة 2: 10). “إذا علمتم أنّه (أي يسوع المسيح) بارّ فاعلموا أيضًا أنّ كلّ من يعمل البرّ مولودٌ منه” (1 يوحنّا 2: 29). “إنّ من اتّقاه (أي الله) في أيّة أمّةٍ وعمل البرّ، كان مقبولاً عنده” (أعمال 10: 35).
ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الصدد: “إنّ تصميم الخلاص يشمَل أيضًا الذي يعترفون بالخالق، لاسيّما المسلمين الذي يقرّون أنّ لهم إيمان إبراهيم ويعبدون معنا الله الواحد الرحيم الذي سيَدين البشر في يوم القيامة. وحتّى الذين لا يزالون يبحثون، في شتّى الأشكال والصور، عن إله يجهلونه، فإنّ الله غيرُ بعيد عنهم لأنّه هو الذي يمنح الجميع الحياة والنَّفَس (أعمال 17: 25-28)، ولأنّه مخلّص، فهو يريد أن يخلُص جميع الناس (1 تيموثاوس 2: 4). وأيضًا مَن جهل إنجيل المسيح وكنيسته، دون ذنبٍ منه، وبَحَث عن الله بقلب صادق، وجهد عمليًّا في أنّ يُتمّ مشيئة الله التي يعرفها من صوت ضميره، استطاع هو أيضًا أن ينال الخلاص. ولا تأبى العناية الإلهيّة أن تَمُنَّ بكلّ ما هو ضروريّ للخلاص، على الذين – دونما ذنبٍ منهم – لم يتوصّلوا بعد إلى الاعتراف الصريح بالله، ومع ذلك يسعون لأن يعيشوا عيشةً مستقيمة بعون النعمة الإلهيّة” (دستور عقائديّ في الكنيسة، “نور الأمم” – 16).